صناعة الأمن وتحقيق العدل فى الحضارة الإسلامية


من المعلوم أن فى الحضارة الإسلامية منهجًا وعملًا وفكرًا وتطبيقًا وشريعة وحياة وأسرة واقتصادًا وعسكريًّا وزراعيًّا وصناعيًّا واجتماعيًّا وعمرانيًّا وإنتاجيًّا، كل هذه المقومات لكي تتحقق فإنها في حاجة إلى تحقق مفهوم الأمن الاجتماعي، حيث لا ترتقي حضارة بهذه العظمة الموجودة في الحضارة الإسلامية إلا من خلال صناعة الأمن التي تكفل تحقيق المعاني السابقة، ولا ينفصم الأمن عن الإيمان، كما لا ينفصم عن نمو الحضارة وازدهارها، وهذا ما يمكن توضيحه فيما يلي :

 

أ - الإسلام وصناعة الأمن :

لقد جمع الإسلام منذ ظهوره من أربعة عشر قرنًا ونصف بين مختلف مقومات الأمن، ومنها :

1- الأمن الإيماني، وقوامه الإسلام والتوحيد والاطمئنان [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] [ الرعد : 28] .

2- الأمن العسكري، وقوامه القوة للردع : [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] [  الأنفال : 60] .

وفي الوقت ذاته أمر بالسلام [فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ] [ النساء: 90] .

3- الأمن السياسي، وقوامه العدل والشورى :

[وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] [ النساء : 58]  [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] [ آل عمران : 159] .

4- الأمن الاقتصادي، وقوامه ضمان حد الكفاية [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ] [ المعارج : 24- 25 ]  [وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ] [ النور : 33 ] .

5- الأمن الاجتماعي، وقوامه حفظ التوازن بين أفراد المجتمع، إن الإسلام هو دين الله المنزل من السماء.

ب- لإقامة العدل الاجتماعي في الأرض، ويتحقق ذلك من خلال ثلاثة عناصر رئيسة كما يلي :

1- ضمان حد الكفاية لا الكفاف، وهو ما يؤخره المرء لنفسه بجهده وعمله، وفي حال عجزه، أو مرضه، فنفقته تكون على بيت مال المسلمين، وهذا مكفول لكل من يعيش في المجتمع الإسلامي سواء أكان مسلمًا، أم غير مسلم.

يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ((أيما أهل عرصة ( أي : قرية، أو جماعة) ظل فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله))([1]) .

 

 

2- حفظ التوازن الاجتماعي، أو التفاوت المنضبط :

أساس الثروة في الإسلام هو العمل، قال – تعالى - : [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ] [ النجم : 39 - 41 ]. [وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا] [ الأحقاف : 19] .

وتوزع الثروة بعدالة بين أفراد المجتمع الإسلامي [كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ] [الحشر : 7 ] .

جـ- أساليب الإسلام في تحقيق العدل الاجتماعي وحفظ التوازن :

1- عدم السماح بالثروة والغنى إلا بعد ضمان حد الكفاية لا الكفاف .

2- عدم السماح باستئثار أقلية بخيرات المجتمع .

3- إعادة التوزيع عند افتقاد التوازن وعلى ولي الأمر التدخل لإعادة التوازن، وقد حدث هذا في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وعهد الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم.

يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ((يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شرٌّ لك ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى))([2]) .

وهذا الأمن الذي أشرنا إليه بأبعاده المختلفة، يحقق استقرار الدولة الإسلامية، ودوام عطائها، وهذا جانب آخر في تميز الحضارة الإسلامية في مرجعية بناء الدولة الإسلامية، وتنظيم العلاقات داخلها، وهذا يمكن بيانه فيما يلي :

 تتميز الدولة الإسلامية في الحضارة الإسلامية بعدة خصائص منها:

1- السير وفق قانون واضح المعالم:

إن القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة هما أساس الدستور الإسلامي، وقد يدخل في هذا الدستور من القواعد العامة أشياء غير منصوص عليها في الكتاب، ولا في السنة، ومع ذلك يمكن إدخالها تحت قاعدة كلية من الكتاب والسنة.

إن كل مُشَرِّع يضع القوانين التي تحمى مصالحه وتحقق أهدافه، أما في الإسلام فإن سلطة التشريع حق لله وحده، وهو لا يحابي أحدًا ولا يظلم أحدًا، ومن ثم فإن التشريع الإسلامي يتصف بالعدل، ويكره الهوى، ويتسم بالشمول.

وعلى الإنسان أن ينفذ أوامر الله سبحانه وتعالى، ويحكِّم كتاب الله وسنة رسوله فيما يقع بين الناس من خلاف، قال تعالى:  [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] [النساء: 65].

وغاية إقامة الدولة الإسلامية تنفيذ أوامر الله، وتحكيم شرعه بين الناس، ويتضح ذلك من تعريف العلماء لمنصب الخلافة أو الحكم، حيث يقولون: إن الخلافة نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به؛ أي: أن الحاكم المسلم أو الخليفة يقوم بمهمته نائبًا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  في تبليغ أوامر الله، والعمل بها، وإلزام الناس بالعمل بها، فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا.

2- التقوى هي أساس التفاضل بين المسلمين:

التقوى والعمل الصالح والخلق الحسن أساس التفاضل بين أبناء المجتمع المسلم، وليس السلطان، أو الجاه، أو المركز الاجتماعي، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ] [الحجرات: 13] وقال – صلى الله عليه وسلم - : ((ليس لعربي على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى))([3]).

3- الوفاء بالعهود الداخلية والخارجية:

وهذا من الخصائص اللازمة والضرورية للدولة الإسلامية، لإقرار الأمن وتحقيق السلام والاستقرار، قال تعالى: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ] [النحل: 91].

وهذا فرض ومنهج حياة لا يجوز مخالفته، قال تعالى: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا] [الإسراء: 34]. وذلك لنشر السلام في كل أنحاء الديار الإسلامية، لقوله – صلى الله عليه وسلم - : ((أفشوا السلام بينكم)) ([4])، ولا فرق في ذلك بين مسلم وذِمِّي من رعايا الدولة الإسلامية، لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جعل السلام تحية لأمتنا، وأمانًا لأهل ذمتنا))([5]).

وفي العلاقات الخارجية فالدولة الإسلامية تدعو إلى السلام، ما لم تُنْتهك حرمات الله، أو يُعتدى على أرض المسلمين، قال تعالى: [لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  ] [الممتحنة: 8-9] .

العلاقة بين الفرد والمجتمع في النظام الإسلامي علاقة مشاركة، فالإسلام لا يعترف بالفلسفات والمذاهب التي تجعل الفرد والمجتمع في صراع، وبعض هذه المذاهب يفضل جانب الفرد على المجتمع مثل الرأسمالية، وبعضها الآخر يفضل جانب المجتمع على جانب الفرد كما صنعت الشيوعية، أما الإسلام فهو يوازن بين الفرد والمجتمع، فهو يعترف بالمسئولية الفردية، أي: مسئولية كل فرد عن أفعاله، قال تعالى: [أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى]  [النجم: 38-39]، ويشجعه على أن يتفاعل مع المجتمع، ويؤدي ما عليه تجاهه، من خير يحمله إليه، وشر يدفعه عنه، فالفرد عليه تبعات تجاه نفسه، وتجاه مجتمعه، ملزم بأدائها.

وينظم الإسلام ذلك من خلال مبدأ المسئولية الاجتماعية، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أوضح الرسول – صلى الله عليه وسلم -  هذه المسئولية الجماعية من خلال المثل الذي ضربه في حديثه: - صلى الله عليه وسلم – ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا))([6]) .

وعلاقة الفرد بالحكومة، علاقة تعاون، فقد أعطى الإسلام الفرد حقوقه الأساسية، وألزم الحكومة باتباع القانون الرباني، وحمى الفرد من تدخل الحكومة في شئونه دون مبرر، قال تعالى: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه] [ص: 26].

وربط الإسلام الفرد المسلم بضوابط أخلاقية، وفرض عليه طاعة الحكومة المسلمة التي تطبق شرع الله، وطلب منه التعاون معها والتضحية بالنفس والمال في سبيل حمايتها، قال – صلى الله عليه وسلم - : ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) ([7]).

3- الحكومة الإسلامية نابعة من المجتمع الإسلامي:

فالإسلام لا يعترف بهيئة من خارج المجتمع الإسلامي تحكم الأمة عن طريق الاستيلاء على السلطة بالقوة وحكم الشعوب بالتسلط والقهر، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ] [النساء: 59].

فقوله تعالى: (منكم) يحدد نوعية الحاكم والحكومة، وهي أنها حكومة إسلامية منا، وليست من غير المسلمين، قال تعالى: [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] [النساء: 141].

-----------------------------------------

* من كتاب الحضارة الإسلامية  (فريضة شرعية، ورؤية مستقبلية)

([1])  ابن أبي شيبة: المصنف ( 10).

([2])  ابن الحجاج ، مسلم : الصحيح ( 1718).

([3])  الطبراني : المعجم الكبير ( 12/360).

([4])  ابن الحجاج ، مسلم الصحيح( 81).

([5])  الطبراني : المعجم الكبير ( 7395).

([6])   البخاري: صحيح البخاري (2313).

([7])   البخاري: صحيح البخاري (6609).